بحث للشيخ القاضي محمد تقي العثماني حول الخروج على الحاكم

بحث نفيس لأحد كبار علماء باكستان وهو القاضي محمَّد تقيّ العثماني أنقله بطوله لما حواه من فوائد
في الجزء الثالث من (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم )(ص:271 إلى ص:275) قال في شرح حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان).

قوله: (وأن لا ننازع الأمر أهله) أي لا ننازع الأمير في إمارته، وزاد أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة: ( وإن رأيت أن لك في الأمر حقا فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع وأطع، إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة ) وزاد في رواية حبان أبي النضر عند ابن حبان وأحمد: ( وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك) كما في فتح الباري: 13/8.
قوله: ( إلا أن تروا كفرا بواحا ) بفتح الباء الواو، يعني ظاهرا باديا، من قولهم: باح بالشيء يبوح به بوحا و بواحا: إذا أذعه وأظهره، و وقع في بعض الروايات: ” براحا” بالراء بدل الواو، وهو قريب من هذا المعنى، وأصل البراح: الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل : البراح: البيان، يقال برح الخفاء إذا ظهر، ووقع عند الطبراني في الحديث: ” كفرا صراحا ” بصاد مضمومة ثم راء، هذا ملخص ما في فتح الباري: 13/8.

مسألة الخروج على أئمة الجور
———————————-
وبهذا الحديث استدل جمهور العلماء على أنه لا يجوز الخروج على السلطان الجائر أو الفاسق إلا أن يظهر منه كفر صريح، قال الحافظ في الفتح (13/7) ( قال ابن بطال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها ).
وربما يفهم منه بعض الناس أن الإمام الجائر لا يجوز الخروج عليه في حال من الأحوال مادام متسميا باسم الإسلام، وليس الأمر على هذا الإطلاق، ولاسيما على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى،
يقول الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن (1/70) تحت قوله تعالى : ولا ينال عهدي الظالمين () وكان مذهبه ( يعني أبا حنيفة ) مشهورا في قتال الظلمة، وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي: ” احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف ” يعني قتال الظلمة، فلم نحتمله،… وقضيته في أمر زيد بن على مشهورة، وفي حمله المال إليه، وفتياه الناس سرا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن ).
أما الذي أشار إليه الجصاص من قضية زيد بن علي، فما ذكره أصحاب التواريخ أن زيد بن علي لما خرج على بني أمية أيده الإمام أبو حنيفة بماله، وقد أخرج الموفق بسنده: ( كان زيد بن علي أرسل إلى أبي حنيفة يدعوه إلى نفسه، فقال أبو حنيفة لرسوله: لو عرفت أن الناس لا يخذلونه ويقومون معه قيام صدق، لكنت أتبعه وأجاهد معه من خالفه، لأنه إمام حق، ولكني أخاف أن يخذلوه كما خذلوا أباه، لكني أعينه بمالي فيتقوى به على من خالفه، وقال لرسوله : ( ابسط عذري عنده، وبعث إليه بعشرة آلاف درهم )، ثم قال الموفق ( وفي غير هذه الرواية اعتذر بمرض يعتريه في الأيام حتى تخلف عنه، وفي رواية أخرى : سئل عن الجهاد معه، فقال: خروجه يضاهي خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقيل له: فلم تخلفت عنه ؟ قال: لأجل ودائع كانت عندي للناس عرضتها على ابن أبي ليلى، فما قبلها، فخفت أن أقتل مجهلا للودائع، وكان يبكي كلما ذكر مقتله ) راجع مناقب الإمام الأعظم للموفق المكي(1/260 و261).

وأما قصته مع محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم بن عبد الله، فإنهما خرجا على المنصور، وذكر المكي في المناقب (2/84) أن أبا حنيفة كان يحض الناس على إبراهيم ويأمرهم بإتباعه، وذكر قبل ذلك أنه كان يفضل الغزوة معه على خمسين حجة، وذكر الكردي في مناقبه (2/22) أن الإمام أبا حنيفة منع الحسن بن قحطبة أحد قواد المنصور من الخروج إلى إبراهيم بن عبد الله، ويقال: إن المنصور سم أبا حنيفة من أجل هذا، حتى توفى رحمه الله،

وكذلك قصة سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه مع يزيد بن معاوية معروفة، وخرجت جماعة من المتقين على الحجاج بن يوسف،

فالذي يظهر لهذا العبد الضعيف عفا الله عنه بعد مراجعة النصوص الشرعية وكلام الفقهاء والمحدثين في هذا الباب – والله أعلم – أن فسق الإمام على قسمين:

الأول:
——
ما كان مقتصرا على نفسه، فهذا لا يبيح الخروج عليه، وعليه يحمل قول من قال : إن الإمام الفاسق أو الجائر لا يجوز الخروج عليه،

والثاني:
———
ما كان متعديا وذلك بترويج مظاهر الكفر، و إقامة شعائره، وتحكيم قوانينه، واستخفاف أحكام الدين، والامتناع من تحكيم شرع الله مع القدرة على ذلك لاستقباحه، وتفضيل شرع غيرالله عليه، فهذا ما يلحق بالكفر البواح، ويجوز حينئذ الخروج بشروطه.

وأحسن ما رأيت في هذا الموضوع كلام نفيس لشيخ مشايخنا حكيم الأمة أشرف علي التهانوي رحمه الله رسالته ” جزل الكلام في عزل الإمام ” وإنما مطبوعة في المجلد الخامس من إمداد الفتاوى (ص119 إلى 131).
وإن خلاصة ما ذكره رحمه الله في تلك الرسالة أن الأمور المخلة بالإمامة على سبعة أقسام:

القسم الأول:
————–
أن يعزل الإمام نفسه بلا سبب، وهذا فيه خلاف، كما في شرح المقاصد (2/282).

والقسم الثاني:
—————–
أن يطرأ عليه ما يمنعه من أداء وظائف الإمامة، كالجنون، أو العمى، أو الصمم أو البكم، أي صيرورته أسيرا لا يرجى خلاصه، وهذا ما ينحل به عقد الإمامة، فينعزل الإمام في هذه الصور جميعا.

والقسم الثالث:
—————–
أن يطرأ عليه الكفر، سواء كان كفر تكذيب وجحود، أو كفر عناد ومخالفة، أو كفر استخفاف أو استقباح لأمور الدين، وفي هذه الصورة ينعزل الإمام، وينحل عقد الإمامة، فإن أصر على بقائه إماما، وجب على المسلمين عزله بشرط القدرة ولكن يشترط في ذلك أن يكون الكفر متفقا عليه، بدليل قوله عليه السلام ( في حديث الباب) : ” إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ” وكما يشترط قطعية الكفر، يشترط أيضا أن يكون صدوره منه قطعيا كرؤية العين، ولا يكتفى في ذلك بالروايات الظنية، بدليل قوله عليه السلام: ” إلا أن تروا ” المراد به رؤية العين بدليل تعديته إلى مفعول واحد. ثم قد تختلف الآراء في كون الصادر من السلطان كفرا، أو في دلالته على الكفر، أو في ثبوته بالقرائن الحالية و المقالية، أو في قطعية الكفر الصادر منه، فكل من عمل عند وقوع مثل هذا الخلاف برأيه الذي يراه فيما بينه وبين الله يعتبر مجتهدا معذورا، فلا يجوز تفويق سهام الملامة إليه. على أن وجوب الخروج في هذه الصورة مشروط بشرط القدرة، وبأن لاتحدث به مضرة أكبر من مضرة بقاء مثل هذا الإمام، يقول الشريف الجرجاني في شرح المواقف (8/353) : ( وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين، وانتكاس أمور الدين،،… وإن أدى خلعه إلى فتنة احتمل أدنى المضرتين ). فيمكن أيضا أن يقع الخلاف في تعيين أدنى المضرتين، فكل يعمل بما يراه فيما بينه وبين الله، فلا يجوز لواحد أن يلوم الآخر، وعلى مثل هذه الأمور الاجتهادية يحمل اختلاف الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الخروج على بعض الأئمة في زمنهم،

القسم رابع:
————-
أن يرتكب السلطان فسقا مقتصرا على نفسه، كالزنا، وشرب الخمر وما إلى ذلك، وحكمه أنه لا ينعزل به بنفسه، ولكنه يستحق العزل، فعلى الأمة أن تعزله إلا أن تترتب على العزل فتنة، قال في الدر المختار، باب الإمامة ( يكره تقليد الفاسق ويعزل به إلا لفتنة ) وقال ابن عابدين تحته: ( قوله: ويعزل به، أي بالفسق لو طرأ على، المراد أنه يستحق العزل كما علمت آنفا، ولذا لم يقل ينعزل )، وقال ابن الهمام في المسايرة: ( وإذا قلد عدلا ثم جار وفسق لا ينعزل، وإن لم يستلزم، ولكن يستحق العزل، وإن لم يستلزم فتنة) و حاصله أنه لا يجوز الخروج عليه في هذه الصورة بما فيه سفك الدماء وإثارة الفتنة (…)

والقسم الخامس:
——————–
أن يرتكب فسقا يتعدى أثره إلى أموال غيره، بأن يظلم الناس في أموالهم، ولكن يتأول في ذلك بما فيه شبهة الجواز، مثل أن يحمل الناس الجبايات متأولا فيها بمصالح العامة، وحكمه أنه لا ينعزل به، وتجب إطاعته، ولا يجوز به الخروج عليه، كما سيأتي في عبارة ابن عابدين.

والقسم السادس:
——————–
أن يظلم الناس أموالهم، وليس له في ذلك تأويل، ولا شبهة جواز، وحكمه أنه يجوز للمظلوم أن يدفع عنه الظلم، ولو بقتال ويجوز الصبر أيضا بل يؤجر عليه، وأن هذا القتال ليس للخروج عليه، بل للدفاع عن المال، فلو أمسك الإمام عن الظلم وجب الإمساك عن القتال، قال ابن عابدين ناقلا عن فتح القدير: ( ويجب على كل من أطاق الدفع أن يقاتل مع الإمام إلا إن أبدوا ما يجوز لهم القتال، كأن ظلمهم، أو ظلم غيرهم ظلما لا شبهة فيه،،… بخلاف ما إذا كان الحال مشتبها أنه ظلم، مثل تحميل بعض الجبايات التي للإمام أخذها وإلحاق الضرر بها لدفع ضرر أعم منه). وهذا حكم المظلوم الذي يقاتل دفعا للظلم عن نفسه، أما غيره فهل يجوز له أن ينصر هذا المظلوم ضد الإمام ؟ اختلفت فيه عبارات القوم، فذكر في فتح القدير أنه يجب على غير الظلوم أن يعين هذا المظلم و المقاتل حتى ينصفه الإمام ويرجع عن جوره، وذكر في جامع الفصولين والمبتغي والسراج أنه لا ينبغي للناس معاونة السلطان ولا معاونتهم، ووفق ابن عابدين بين القولين بأن وجوب إعانتهم إذا أمكن امتناعه عن بغيه، و إلا فلا، راجع رد المحتار، باب البغاة (3/341). وأما كون الصبر أولى في هذه الحالة، فلما سيأتي عند المصنف من حديث حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما أخبر فيه عن أئمة الجور، وفيه: (قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) فالمراد من قوله عليه السلام: (فاسمع وأطع) نهيه عن الخروج. وأما القتال لدفع الظلم فجوازه مبني على الأحاديث التي تبيح عن القتال عن النفس وعن المال، وبما أن هذا القتال يشابه الخروج صورة، فتركه أولى استبراأ للدين.

والقسم السابع:
——————
أن يرتكب فسقا متعديا إلى دين الناس، فيكرههم على المعاصي، وحكمه حكم الإكراه المبسوط في محله، ويدخل هذا الإكراه في بعض الأحوال في الكفر حقيقة أو حكما، وذلك بأن يصر على تطبيق القوانين المصادمة للشريعة الإسلامية، إما تفضيلا لها على شرع الله، وذلك كفر صريح، أو توانيا، وتكاسلا عن تطبيق شريعة الله ؛ بما يغلب منه الظن أن العمل المستمر على خلاف الشريعة يحدث استخفاف لها في القلوب، فإن مثل هذا التواني والتكاسل، وإن لم يكن كفرا صريحا يحيث يكفر به مرتكبه، ولكنه في حكم الكفر، بدليل ما ذكره الفقهاء من أنه لو ترك أهل بلدة الأذان حل قتالهم، لأنه من أعلام الدين، وفي تركه استخفاف ظاهر به، راجع باب الأذان من رد المحتار(1/384). وحينئذ يلحق هذا القسم السابع بالقسم الثالث، وهو الكفر البواح، فيجوز الخروج على التفصيل الذي سبق في حكمه.
ثم إن وجوب الخروج في القسم الثالث والسابع مشروط بالقدرة والمنعة، وجواز الخروج فيهما مشروط بأن يرجى عقد الإمامة لرجل صالح فيه شروط تواجد فيه شروط الإمامة، وأما إذا صار الأمر من جائر إلى جائر، أو استلزم، مثل استيلاء الكفار على المسلمين، فلا يجوز الخروج في هاتين الصورتين أيضا.
وما روى من خروج سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما على يزيد بن معاوية، وتأييد الإمام أبي حنيفة زيد بن علي، ومحمد النفس الزكية وإبراهيم بن عبد الله في خروجهم على أئمة زمنهم محمول على القسم الثالث أو السادس أو السابع، وقد ذكرنا أن الآراء يمكن أن تختلف في تعيين ما يبيح الخروج، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلامه

رشيد رضا ينقل خلاف أهل السنة في مسألة الخروج على الحاكم الجائر

قال العلامة رشيد رضا: وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَحُكْمِ مَنْ يَخْرُجُ ; لِاخْتِلَافِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّبْرِ وَتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَمُقَاوَمَةِ
الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَلَمْ أَرَ قَوْلًا لِأَحَدٍ جَمَعَ بِهِ بَيْنَ كُلِّ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَوَضَعَ كُلًّا مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَبَبُ وُرُودِهِ، مُرَاعِيًا اخْتِلَافَ الْحَالَاتِ فِي ذَلِكَ، مُبَيِّنًا مَفْهُومَاتِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ دُونَ مَا بَعْدَهُ. مِثَالُ هَذَا لَفْظُ ” الْجَمَاعَةِ ” إِنَّمَا كَانَ يُرَادُ بِهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تُقِيمُ أَمْرَ الْإِسْلَامِ بِإِقَامَةِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ صَارَتْ كُلُّ دَوْلَةٍ أَوْ إِمَارَةٍ مِنْ دُوَلِ الْمُسْلِمِينَ تَحْمِلُ كَلِمَةَ الْجَمَاعَةِ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ هَدَمَتِ السُّنَّةَ وَأَقَامَتِ الْبِدْعَةَ وَعَطَّلَتِ الْحُدُودَ وَأَبَاحَتِ الْفُجُورَ، وَمِثَالُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ تَعَدُّدُ الدُّوَلِ؛ فَأَيُّهَا تَجِبُ طَاعَتُهُ وَالْوَفَاءُ بِبَيْعَتِهِ؟ وَإِذَا قَاتَلَ أَحَدُهَا الْآخَرَ؛ فَأَيُّهَا يُعَدُّ الْبَاغِيَ الَّذِي يَجِبُ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُ حَتَّى يَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ؟ كُلُّ قَوْمٍ يُطَبِّقُونَ النُّصُوصَ عَلَى أَهْوَائِهِمْ مَهْمَا كَانَتْ ظَاهِرَةً.
وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، ” وَإِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ “، وَأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ إِبَاحَةَ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ; كَالزِّنَا وَالسُّكْرِ وَاسْتِبَاحَةِ إِبْطَالِ الْحُدُودِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، كُفْرٌ وَرِدَّةٌ، وَأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الدُّنْيَا حُكُومَةٌ عَادِلَةٌ تُقِيمُ الشَّرْعَ وَحُكُومَةٌ جَائِرَةٌ تُعَطِّلُهُ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نَصْرُ الْأُولَى مَا اسْتَطَاعَ، وَأَنَّهُ إِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أُخْرَى، وَجَرَّدَتْ عَلَيْهَا السَّيْفَ، وَتَعَذَّرَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُ الْبَاغِيَةِ الْمُعْتَدِيَةِ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَمَا وَرَدَ فِي الصَّبْرِ عَلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ – إِلَّا إِذَا كَفَرُوا – مَعَارَضٌ بِنُصُوصٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ بِهِ اتِّقَاءُ الْفِتْنَةِ وَتَفْرِيقُ الْكَلِمَةِ الْمُجْتَمِعَةِ، وَأَقْوَاهَا حَدِيثُ: ” وَأَلَّا تُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا “. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعْصِيَةُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ مُنَازَعَةَ الْإِمَامِ الْحَقِّ فِي إِمَامَتِهِ لِنَزْعِهَا مِنْهُ لَا يَجِبُ إِلَّا إِذَا كَفَرَ كُفْرًا ظَاهِرًا، وَكَذَا عُمَّالُهُ وَوُلَاتُهُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ وَالْمَعَاصِي فَيَجِبُ إِرْجَاعُهُ عَنْهَا مَعَ بَقَاءِ إِمَامَتِهِ وَطَاعَتِهِ فِي الْمَعْرُوفِ دُونَ الْمُنْكَرِ، وَإِلَّا خُلِعَ وَنُصِّبَ غَيْرُهُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ خُرُوجُ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ سِبْطِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِمَامِ الْجَوْرِ وَالْبَغْيِ الَّذِي وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقُوَّةِ وَالْمَكْرِ، يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ خَذَلَهُ اللهُ وَخَذَلَ مَنِ انْتَصَرَ لَهُ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ وَالنَّوَاصِبِ
الَّذِينَ لَا يَزَالُونَ يَسْتَحِبُّونَ عِبَادَةَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ عَلَى مُجَاهَدَتِهِمْ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ. وَقَدْ صَارَ رَأْيُ الْأُمَمِ الْغَالِبُ فِي هَذَا الْعَصْرِ وُجُوبَ الْخُرُوجِ عَلَى الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْمُفْسِدِينَ، وَقَدْ خَرَجَتِ الْأُمَّةُ الْعُثْمَانِيَّةُ عَلَى سُلْطَانِهَا عَبْدِ الْحَمِيدِ خَانْ، فَسَلَبَتِ السُّلْطَةَ مِنْهُ وَخَلَعَتْهُ بِفَتْوَى مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَتَحْرِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِمُصَنَّفٍ خَاصٍّ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَرَجَّحَ الْحَقَّ عَلَى الْهَوَى. [تفسير المنار ج6 ص304]